عبد الحميد بن باديس
نشأ عبد الحميد بن باديس في أحضان أسرة عريقة في
العلم والجاه، وفي بيتها الكريم ترعرع معززا مكرما، لا ينقصه شيء من متاع الحياة
الدنيا، وكان أبوه حريصا على أن يربيه تربية إسلامية خاصة؛ فلم يُدخله المدارس
الفرنسية كبقية أبناء العائلات المشهورة، بل أرسل به للكتاب القرآني ككل الأطفال
بالطريقة المألوفة المعروفة وهو في الخامسة من عمره، فحفظ القرآن وتجويده على يد
الشيخ المقرئ محمد بن المدَّاسي وعمره لم يتجاوز الثالثة عشرة سنة، ونشأ منذ صباه
في رحاب القرآن فشب على حبه والتخلُّق بأخلاقه. ولشدة إعجابه بجودة حفظه، وحسن
سلوكه، قدمه ليصلي بالناس التراويح في رمضان بالجامع الكبير وعمره إحدى عشر سنة
ليتعود على تحمل المسئولية، وقبله المصلون رغم صغر سنه وبقي يؤمهم ثلاثة أعوام.
تلقى مبادئ العلوم العربية والإسلامية
بجامع سيدي محمد النجار على مشايخ من أشهرهم العالم الجليل الشيخ "أحمد أبو حمدان
الونيسي"
ابتداء من عام 1903 الذي حبب إليه العلم، ووجهه الوجهة المثلى فيه، وهو من
أوائل الشيوخ الذين لهم أثر طيب في اتجاهه الديني.
و في سنة 1908
عزم أستاذه الشيخ "الونيسي" على الهجرة إلى المشرق العربي حين ذاق ذرعا
بالحياة تحت وطأة الحكم الفرنسي الطاغي، و لشدة تعلق عبد الحميد بأستاذه قرر السفر
معه أو اللحاق به مهاجرا في طلب العلم، غير أن آباه لم يوافقه على ذلك ووجهه إلى
طلب العلم في تونس.
حياته الزوجية
تزوج الشيخ عبد
الحميد بن باديس في سن مبكرة وهو لا يتجاوز الحادية عشرة من عمره حين تم عقد زواجه
في 08 مارس 1901م بإحدى
قريباته ابنة عمه "اليامنة بنت ابن باديس"، ولما بلغ الخامسة
عشرة من عمره دخل بيت الزوجية في حدود 1904 م . أنجب عبد الحميد بن باديس من هذا الزواج
المبكر ولدا سماه "إسماعيل"، ظل الابن يدرس عند أبيه "عبد
الحميد" حتى
حفظ القرآن وقبل أن يوجهه أبوه لطلب العلم، توفي في حادث مفاجئ ببندقية
صيد في ضيعة جده إذ يقال إنه كان يتجوّل بالمزرعة شاهد أحد حراس المزرعة يعلق
بندقيته المعبأة بالرصاص في جذع شجرة. فحملها إسماعيل بكل براءة وراح يلهو بها
فخرجت رصاصة قاتلة استقرت بصدر الصغير، وذلك في 19 من رمضان عام 1337هـ الموافق لـ17
جوان 1919م .
وهناك بالمدينة
الكبيرة كان الشيخ عبد الحميد بن باديس يقدم دروسه لتلامذته داخل المسجد عندما
تقدم منه أحد أصدقائه وأسرّ له الخبر المحزن، فأكمل الدرس حتى نهايته ثم انفرد في
زاوية خاصة وراح يُذرف الدموع، وتكرر نفس المشهد عندما توفي شقيقه سليم، وكان
حينها أيضا في حلقة تدريس.
أما زوجته لم
تستمر معه طيلة حياته حيث طلقها عندما طلبت أن تقيم وحدها بعيدا عن أسرة والده
وكان هو يريد أن يبقيها ضمن أفراد عائلة أبيه حتى تتوفر لديه الحرية أكثر في
الحركة والنشاط لأنه كان يقضي جل وقته في الدرس والخطابة والكتابة خارج البيت وبدخوله
عالم الدعوة لم يعد يزور البيت إلا نادرا، مما أثار حفيظة الزوجة التي غادرت بيت
أهل بن باديس، وعندما رجع ولم يجدها رفض رغم إلحاح والده الذهاب لإحضارها. وانتظر
عدة أيام وعندما تأكد من عدم رجوعها للبيت لفظ كلمة الطلاق ورفض العودة عن قراره
رغم محاولات أهل الزوجين وأكثر من ذلك رفض الزواج ثانية.
نظرا
لما كان يبدو على "عبد الحميد" من فطنة و نباهة وميل إلى الجد في فترة
التعلم التي سبقت ذهابه إلى تونس حرس أبوه على إرساله إلى جامع الزيتونة ليكمل
تعليمه ويوسع معارفه، فسافر إلى تونس في نفس العام الذي هاجر فيه أستاذه
"الونيسي" (1908 م )
إلى المشرق تاركا الزوجة والولد في كفالة والديه، وسنه إذ ذاك تسعة عشرة عاما.
وبعد ثلاث سنوات من الجد والاجتهاد تحصل على شهادة التطويع (كما كانت تدعى حين
ذاك) عام 1911 م
وقد نجح في امتحان التخرج نجاحا باهرا، إذ حصل على الرتبة الأولى ضمن قائمة جميع
الناجحين في تلك الدورة، و كان الطالب الجزائري الوحيد الذي تخرج في دفعة تلك
السنة من الجامع المعمور وذلك بناء على وجوده في رأس قائمة الناجحين التي نشرتها
جريدة "المشير" التونسية، وأقام أثناء دراسته بمدرسة "النخلة"
الكائنة بنهج الكتيبة رقم 11 قرب جامع الزيتونة، وكان يسكن بها أحد شيوخه وهو
المرحوم "سعد السطيفي" وبقي بعد التخرج سنة أخرى يُدرس ويَدرس على عادة
المتخرجين في ذلك العهد.
والملفت
للانتباه أن نظام الدراسة في الزيتونة قبل السنة التي التحق فيها "عبد
الحميد" (1908 م )
أن المّدة التي يقضيها الطالب لنيل أعلى شهادة هي سبع سنوات، ولكن يسمح للطالب
المتمكن – بعد إجراء امتحان له – أن يتجاوز سنوات ويوضع في الصف الذي يؤهله له هذا
الامتحان، غير أنه في السنة التي سافر فيها "عبد الحميد" ألغي هذا
النظام، فأدى ذلك إلى إثارة طلاب الزيتونة، فتراجعت إدارة الجامع عن المرسوم،
وأجّلت تطبيقه إلى السنة الموالية مما أتاح لعبد الحميد فرصة الالتحاق بالسنة
الخامسة – بعد أن أجري له امتحان – فلم يدرس في جامع الزيتونة إلا ثلاث سنوات نال
بمقتضاها الشهادة والسنة الرابعة قضاها مدرسا.
وهناك في تونس خلال المدة التي قضاها في التعلم تعرف
على كبار العلماء، وأخذ عنهم الثقافة العربية الإسلامية وأساليب البحث في التاريخ
والحياة الاجتماعية، من أمثال الشيوخ : محمد الطاهر بن عاشور شيخ الإسلام الذي درس
عليه ديوان الحماسة للبحتري، والعلامة الصدر محمد النخلي القيرواني الذي درس عليه
التفسير، والعلامة الخضر بن الحسين الطولقي الجزائري التونسي الذي تلقى عليه
المنطق وقرأ عليه كتاب التهذيب فيه، ومحمد بلحسين النجار بن الشيخ المفتي محمد
النجار والشيخ محمد الصادق النيفر قاضي الجماعة الذي أخذ على يده الفقه، والبشير
صفر ألمع المؤرخين والمصلحين التونسيين في القرن العشرين، وكان لكل واحد من هؤلاء
تأثير خاص في جانب من جوانب شخصية ابن باديس، وقد عرف ابن باديس أثناء دراسته في
الزيتونة بالنشاط، وكان يتميز بحب الاطلاع الواسع، كما يبدو من خلال اتصالاته ببعض
العلماء خارج الزيتونة حيث كان يحضر بعض الدروس غير المقررة في برنامج الزيتونة
فهو يخبرنا إنه حضر على الشيخ "خضر بن الحسين" دروسه في تفسير البيضاوي
في داره بباب منارة في تونس.
فقد تأثر كثيرا
ببعض المشايخ الذين وجد في آرائهم وأفكارهم وأساليب تعليمهم ما يلائم طبعه وتطلعه،
و ميله إلى الاجتهاد واستعمال العقل، مثل الشيخ محمد النخلي القيرواني الذي كان
دائما يذكره ويثني على منهجه في التدريس، كما تأثر ببعض الأفكار الإصلاحية التي
بدأت تروج في تونس بعد زيارة محمد عبده لها.
عاد
الشاب "عبد الحميد" إلى بلاده يحمل شهادة التطويع (العالمية) فاستقبله
أبوه في محطة القطار كما يستقبل العلماء والأعيان، كان مغتبطا أشد الاغتباط بنجاحه
وبعودته، ولما انتهيا إلى المنزل صاح الأب بأم البنين آن لك أن تزغردي يا أم عبد
الحميد فقد عاد ابنك عالما ليرفع من قيمة عائلته وأمته، ويزيدهما مجدا وشرفا،
فأطلقتها الأم زغرودة عالية دوت أصداؤها في أرجاء البيت الفسيح، وقد أثر هذا
الاستقبال في "عبد الحميد" أيما تأثير، فقد ظل يذكره بكثير من
الاعتزاز... فقد حدث طلابه ذات يوم (في أواسط الثلاثينات) عن ذلك الاستقبال...
واستشهد على ذلك بشواهد منها تقدير أبيه له، وفرحة أمه والزغرودة التي عبرت بها عن
هذه الفرحة والتي كانت تعبيرا صادقا عن فرحة العائلة، " إن تلك الزغرودة التي
قابلتني بها أمي يوم عدت من تونس ما تزال ترن في أذني، ولن أنساها ما حييت".
بعد ذلك بدأ "عبد
الحميد" نشاطه بالتفرغ للتعليم المسجدي في الجامع الكبير بقسنطينة، فباشر
بعقد حلقات دراسية مثل التي شهدها في تونس وإلقاء دروس لبعض الطلبة من كتاب
"الشفاء" للقاضي عياض، أما العامة فكان يقدم لهم دروسا في الوعظ
والإرشاد، غير أن مدّة تعليمه في الجامع الكبير لم تظل، لأن مفتى المدينة الشيخ
"المولد بن الموهوب" الإمام الخطيب بهذا الجامع، منعه من مواصلة
التدريس، بحجة أنه لا يملك إذنا بذلك، والحقيقة أن الشاب عبد الحميد رُخِّص له في
ذلك، فقد اتصل والده بوالي عمالة قسنطينة، وسعى له في الحصول على إذن بالتدريس في
الجامع الكبير، فأذن له ولكنه إذن شفوي، ولما شرع الشاب في التدريس اعتبر الشيخ بن
الموهوب هذا العمل اعتداء على سلطته، لأنه لم يُستشر في ذلك، واعتبره تدخلا سافرا
فيما هو من اختصاصه، لأن والد الشاب حتى وان كان نائبا ساميا في عدة دوائر
انتخابية ومالية على مستوى البلدية والعمالة والوطن، وله مكانته، إلا أنه رجل
سياسة لا دخل له في أمور الدين، هذا الأمر أثار حساسية ابن الموهوب، ومن هنا بدأت
المواجهة بينه وبين المعلم الشاب، الذي لم يكن هدفه سوى نشر المعرفة وخدمة بلاده، فكانت
دروسه ثورة على البدع والخرافات ونبذ العصبيات مما حرك عقول الناس وكان عاملا على
تنبيههم من حالة الاحتلال والجهل، فسعى الشيخ المفتي في منع المدرس الشاب من
التدريس بل تمادى، فكلف المفتي من يشوش عليه، ويطفئ المصابيح وقت الدرس، ولكن
الشاب عبد الحميد لم يستسلم، وكلف طلابه أن يحضروا الشموع ليدرسوا تحت ضوئها،
وقابل المفتي عناد هذا الشاب المدرس بتصرف آخر، فأمر أحد اتباعه "الحاج
القريشي" بالتصدي له ومنعه، فجاء وأطبق دفتي الكتاب أمام المدرس عبد الحميد،
وأطفأ الشموع، وكادت تقع فتنة بينه وبين الطلاب، داخل المسجد ولكن المعلم المؤدب
أخمد الفتنة وهدّأ طلابه، فصرفهم وأمرهم بترك الجامع والدرس.
تأثر الفتى عبد
الحميد لمعاملة مفتي المدينة وحامي حمى الإسلام فيها، ولم تمضِ سوى مدة قصيرة حتى عزم
على أداء فريضة الحج، ففاتح أباه في الموضع وأبدى رغبته في الذهاب إلى البقاع
المقدسة لأداء مناسك الحج، فقبل والده ووافقه، وهيأ له الأسباب التي تمكنه من
تحقيق هذه الرغبة
منّ اللَّه على عبد الحميد أداء فريضة الحج عام 1331هـ =
سبتمبر 1913م. وبعد أداء مناسك الحج والعمرة زار المدينة المنورة وأقام بها، وفي
أثناء إقامته بها لقي أستاذه الأول الذي درس عليه في قسنطينة "الشيخ
الونيسي" الذي هاجر إلى المدينة المنورة وأقام بها، وتعرف على بعض العلماء
ومن رفقاء أستاذه مثل : الشيخ حسين أحمد الفيض أبادي الهندي، والشيخ الوزير
التونسي، وألقى بحضورهم درسا في الحرم النبوي الشريف، فأعجبوا به إعجابا شديدا مما
لفت الأنظار إليه. وفي هذه الأثناء أبدى رغبته في البقاء بالمدينة إلى جوار أستاذه
(الونيسي) فرحب الأستاذ بهذه الفكرة ورغبه فيها، لما يعرف من أوضاع بلده. لكن
الشيخ حسين أحمد الهندي لم يوافقه على ذلك، بل نصحه بضرورة العودة إلى وطنه لخدمة
بلاده ومحاولة إنقاذها مما هي فيه، بما توسم فيه من حزم وعزم وصلاح، فاقتنع الشاب
عبد الحميد بوجهة نظر هذا الشيخ، وقبل نصيحته وقرر الرجوع إلى الوطن، عند ذاك حذره
أستاذه "الونيسي" من أن يكون عبدا للوظيفة، لأنه تأكد أن الحكومة ستعرض
عليه الوظائف، قال له "أحذر أن تقبل الوظيفة الحكومية، فهي قيد لك، يحدّ من
نشاطك... وأخذ عليه عهدا أن لا يقبل الوظيفة، ولا الوظيفة، ولا يتخذ علمه سلما
للأغراض المادية والأطماع الدنيوية، فعاهده تلميذه على ذلك، ووفى بهذا العهد"
.
وقد حرص "عبد
الحميد" في هذه الرحلة على الاتصال بالمفكرين والعلماء للتحاور معهم والاطلاع
على أحوال المسلمين ومقارنتها بأحوال بلاده، ودفعه هذا الاتصال إلى التفاعل مع
الحركة الإصلاحية التي انتشرت على يد الإمام محمد عبده و تلميذه رشيد رضا، متأثرين
بزعيم المصلحين جمال الدين الأفغاني وبالحركة السلفية التي انتشرت في الحجاز،
وخلال الفترة التي قضاها في المدينة المنورة تعرف إلى شاب جزائري في مثل سنه عالم
وأديب، هو الشيخ "محمد البشير الإبراهيمي" المقيم مع والديه في المدينة،
أقام معه مدة تعارفا فيها وتحاورا معا في شأن الخطة الإصلاحية التي يجب أن تضبط
لعلاج الأوضاع المتردية في الجزائر، واتفقا على خدمة بلادهما متى عادا إليها . وقد
ذكر الشيخ البشير الإبراهيمي أنهما لم يفترقا طيلة الأشهر الثلاثة التي قضاها ابن باديس
بالمدينة، فكانا يقضيان الليل كله يحللان أوضاع الجزائر، ويحددان شروط ووسائل
نهضتها". ولم يكن أيّ منهما يدري أن هذا اللقاء الذي تم خارج الوطن ستكون له
ثمار طيبة وسيصبح هذا العالم الشاب المهاجر إلى المدينة رفيق دربه في الكفاح و
النضال بعد الرجوع إلى الوطن في العشرينات.
وفي طريق عودته
من الحجاز عرّج على الشام (دمشق وبيروت) وزار المسجد الأقصى وتوقف بمصر ولقي في
الإسكندرية كبير علمائها الشيخ أبا الفضل الجيزاوي الذي أصبح من بعد شيخا للأزهر،
فتعارفا وتذاكرا وأجازه، وفي القاهرة لقي مفتي الديار المصرية الشيخ "محمد
بخيث المطيعي" رفيق محمد عبده، والمدافع عن فكرته بعد وفاته، وكان الشاب عبد
الحميد يحمل للشيخ رسالة من أستاذه الونيسي فأحسن استقباله، ودعاه إلى زيارته في
منزله بحلوان القريبة من القاهرة. وبعد تعرف الشيخ على الشاب جيدا أجازه هو أيضا.
هكذا استطاع أن يلم بأطراف من العالم العربي، ليعرف ما فيه، زيادة عما كان يعرفه
في الجزائر وتونس.
آمن ابن باديس بأن العمل الأول لمقاومة الاحتلال الفرنسي هو
التعليم، وهي الدعوة التي حمل لواءها الشيخ محمد عبده، في مطلع القرن الرابع عشر
الهجري، وأذاعها في تونس والجزائر خلال زيارته لهما سنة (1321هـ= 1903م)، فعمل ابن
باديس على نشر التعليم، والعودة بالإسلام إلى منابعه الأولى، ومقاومة الزيف
والخرافات، ومحاربة الفرق الصوفية الضالة التي عاونت المستعمر.
وبمجرد
أن عاد إلى بلده شرع على الفور في تنفيذ خطوات المشروع المتكامل الذي كان قد بدأه
قبل سفره إلى الحجاز والذي يرتكز على العمل الإصلاحي من خلال نشر التعليم وتربية
الأجيال، وحتى لا يتكرر ما حدث بينه وبين الشيخ ابن الموهوب، استصدر له أبوه رخصة
رسمية من والي عمالة قسنطينة تسمح له بأن يدرس بالمجّان في (الجامع الأخضر) أحد
المساجد الثلاثة الجامعة في المدينة التي تشرف عليها الحكومة.
وهكذا
بدأ التدريس هذه المرة وفي يديه إذن قانوني، يخوّل له ذلك، فنظّم دروسا لعامة
الناس، وأخرى خاصة بالطلبة الوافدين يلقى بعضها في الجامع الأخضر وبعضها في مسجد
سيدي قموش، لا يتقاضى على عمله من الحكومة ولا غيرها أجرا. وكان من دروسه العامة
تفسير القرآن، ظل
يلقيه حتى انتهى منه بعد خمسة وعشرين عامًا، فاحتفلت الجزائر بختمه في 13 من ربيع
الثاني 1357هـ/ 12 جوان 1938م. والحديث النبوي الشريف من الموطأ حتى ختمه في أواسط ربيع الثاني
عام 1358هـ /جوان 1939م).. أما الدروس الموجهة للطلبة فتختلف حسب مستوى كل طبقة،
ويركز فيها على العلوم الدينية واللغوية والتاريخ الإسلامي والتوحيد والمنطق وغير
ذلك من العلوم التي تدخل في تكوين الطالب.
ويُعدّ الجانب التعليمي
والتربوي من أبرز مساهمات ابن باديس التي لم تقتصر على الكبار، بل شملت الصغار الذي
بلغوا سن التعلم، ولم يجدوا مكانا لهم في المدارس الحكومية، أو الذين يدرسون في
هذه المدارس ولكنهم بحاجة إلى تعلم لغتهم ومعرفة دينهم وتاريخهم، فأسس سنة 1926 م أول
نواة للتعليم الابتدائي الحر "مكتب" (مرادف للفظة الكتّاب) أي مدرسة، رفقة جماعة من
الفضلاء السيد العربي والسيد عمر بن مغسولة، حيث اشتريا مسجد سيدي بومعزة، والبناء
المتصل به، وكان فوق بيت الصلاة محل للسكنى بالكراء فأزالاه عن ذلك، وأبقياه محلا
فارغا، فجعل محل "المكتب"، وأطلق عليه اسم "المكتب
العربي"، وأسند إدارته إلى أحد طلاب "ابن باديس" الأوائل هو الشيخ
"مبارك الميلي" بعد تخرجه من جامع الزيتونة، ثم انتقل إلى بناية الجمعية الخيرية
الإسلامية التي تأسست سنة 1336هـ/1917م لاتساعها... وفي سنة 1349هـ/1930 م ثم
تطوّر المكتب إلى مدرسة جمعية التربية والتعليم الإسلامية، وتكونت هذه الجمعية من
عشرة أعضاء برئاسة الشيخ عبد الحميد بن باديس. وقد هدفت الجمعية إلى نشر الأخلاق
الفاضلة، والمعارف الدينية والعربية، والصنائع اليدوية بين أبناء المسلمين وبناتهم،
ويجدر بالذكر أن قانون الجمعية نصّ على أن يدفع القادرون من البنين مصروفات
التعليم، في حين يتعلم البنات كلهن مجانًا.
وكوّن ابن باديس لجنة للطلبة
من أعضاء جمعية التربية والتعليم الإسلامية، للعناية بالطلبة ومراقبة سيرهم،
والإشراف على الصندوق المالي المخصص لإعانتهم، ودعا الجزائريين إلى تأسيس مثل هذه
الجمعية، أو تأسيس فروع لها في أنحاء الجزائر. وقد اثرت هذه الجهود التي انطلقت في
مجال التعليم المدرسي الحّر بقسنطينة في بعض الجهات الأخرى فقام المخلصون فيها
بإنشاء مدارس للتعليم القومي في تلك الفترة ومن اشهر هذه المدارس التي أدت دورا
مهما (مدرسة الشبيبة الإسلامية بمدينة الجزائر) من عام 1927 إلى أن استولت عليها
الإدارة الاستعمارية، وحثّ ابن باديس الجزائريين على تعليم المرأة، وإنقاذها مما
هي فيه من الجهل، وتكوينها على أساسٍ من العفة وحسن التدبير، والشفقة على الأولاد،
فقد خصها بدروس في مدرسة التربية والتعليم مرّة في الأسبوع طيلة خمس سنوات الأخيرة
من حياته، كما قام بترغيب زملائه العلماء أن يقوموا بمثل ذلك في مدنهم وقراهم،
فساروا على نهجه. ولما امتلأت المدارس بالبنات، وأتممن تعلمهن بالمرحلة
الابتدائية، هيأ لهن الشيخ ابن باديس الطريق إلى المشرق العربي وبالضبط إلى سوريا
سنة 1939 م
ليتممن تعليمهن الثانوي والعالي بمدرسة "دوحة الأدب" لكن لم يكتب لهذه
الخطوة النجاح بسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية صيف هذه السنة، ثم عاجلت المنية، فتعطل المشروع
تماما. أما البنين فقد قسموا إلى أربع طبقات حسب مستوياتهم، والذين ينهون دراستهم
عنده يوجه القادرين منهم لإتمام دراستهم في تونس بجامع الزيتونة، وكان من طلائع
طلابه النبغاء : مبارك الميلي والسعيد الزاهري، والهادي السنوسي، ومحمد بن العابد
والسعيد الزموشي، وابن عتيق، والفضيل الورتلاني، وآخرون كثيرون منهم من اكتفى بما
تعلمه عليه، ومنهم من واصل دراسته في الزيتونة حتى شهادة التطويع.
لم يكتفي "عبد الحميد
بن باديس" بالدروس التي كان يقدمها أو يشرف عليها، بل كان يقوم في العطلة
الصيفية، وفي أيام الراحة الأسبوعية بجولات استطلاعية في القطر يتعرف فيها على
أحوال البلاد والعباد، ويلقى الدروس في المساجد، وحيثما تيسر له، ويعلن عن نشاطه
التربوي، وعن الدروس العلمية التي يتلقاها الطلبة في قسنطينة حتى يبين الفائدة
المرجوة منها لمن يشاء الالتحاق بها، ويطلب من شيوخ الزوايا الذين يحضرون دروسه
ومحاضراته أن يرسلوا أبناءهم وطلابهم للتعلم عليه في قسنطينة، هكذا وبهذا الأسلوب
الإعلامي تنامى عدد طلابه من مختلف جهات الوطن، وخاصة عمالة قسنطينة، وأصبحوا
يفدون على الجامع الأخضر، وعلى دروس الشيخ في مختلف المواد.
كما شارك ابن
باديس في محاولة إصلاح التعليم في جامع الزيتونة بتونس، وبعث بمقترحاته إلى لجنة
وضع مناهج الإصلاح التي شكّلها حاكم تونس سنة (1350 هـ/1931م)، وتضمن اقتراحه
خلاصة آرائه في التربية والتعليم، فشمل المواد التي يجب أن يدرسها الملتحق
بالجامع، من اللغة والأدب، والعقيدة، والفقه وأصوله، والتفسير، والحديث، والأخلاق،
والتاريخ، والجغرافيا، ومبادئ الطبيعة والفلك، والهندسة، وجعل الدراسة في الزيتونة
تتم على مرحلتين: الأولى تسمى قسم المشاركة، وتستغرق الدراسة فيه ثماني سنوات،
وقسم التخصص ومدته سنتان، ويضم ثلاثة أفرع: فرع للقضاء والفتوى، وفرع للخطاب
والوعظ، وفرع لتخريج الأساتذة.
كانت الحملات (في الصحافة الإصلاحية وخاصة في الشهاب)
متوالية على الخرافات والأباطيل، وعلى المبتدعة و المضللين، واشترك في الكتابة
فحول العلماء والمفكرين في الجزائر وتونس والمغرب وكان من أشدهم عنفا على الطريقة
العليوية وشيخها المتهم بالحلول ووحدة الوجود، كاتب يمضي مقالاته باسم (بيضاوي)
فحاول العليويين معرفة هذا الكاتب، ولكن إدارة الشهاب أبت الكشف عنه، كما كان
الشيخ ابن باديس قد ألف رسالة علمية يرد فيها على الشيخ ابن عليوة لسوء أدبه مع
النبي (صلى الله عليه وسلم) وعلى بعض شطحاته الحلولية المنافية للعقيدة الإسلامية،
ولأهمية هذه الرسالة قرضها أهم كبار علماء الجزائر وتونس والمغرب.
وهكذا تحرك غيض العلويين،
فقرروا الفتك بابن باديس فعقدوا اجتماعا في مستغانم واتفقوا فيه أن يغتالوا الشيخ
المصلح، وأرسلوا من ينفذ هذه الخطة، وفي قسنطينة شرع هذا الشخص الموفد مع بعض
مساعديه يترصدون الشيخ لمعرفة مسكنه وتحركاته وأوقاته، وفي يوم 9 جمادى الثانية
1341 هـ الموافق ليوم 14/12 / 1926
م عندما كان عائد إلى بيته في منتصف الليل بعد انتهائه من
دروسه في المسجد، أقدم الجاني على تنفيذ محاولته الآثمة، ولما دنا منه هوى عليه
بهراوة وأصابه بضربتين على رأسه وصدعه، فشج رأسه وأدماه، لكن الشيخ أمسك به ونادى
النجدة بضربتين وحاول المجرم أن يسل خنجرا من نوع (البوسعادي) ليجهز على الشيخ، و
لكن الله نجاه، بفضل جماعة النجدة التي قبضت عليه، وأرادت الفتك به، فمنعهم الشيخ،
عند ذلك ساقوه إلى الشرطة فأوقفته وفتشته فوجدت عنده سبحة وتذكرة ذهاب وإياب
بتاريخ ذلك اليوم، (من مستغانم إلى قسنطينة) زيادة عن الموسى والعصا، فأودعته
السجن ثم قدمته للمحاكمة فنال جزاءه، وصدر في شأنه الحكم بخمس سنوات سجنا. رغم أن
ابن باديس عفا عنه في المحكمة قائلا : إن الرجل غرر به، لا يعرفني و لا أعرفه، فلا
عداوة بيني و بينه، أطلقوا سراحه، ولكن الزبير بن باديس المحامي (شقيق الشيخ
المعتدي عليه) قام باسم العائلة يدافع عن شرفها، ويطالب بحقها في تنفيذ الحكم
قائلا : إن أخي بفعل الصدمة لم يعد يعي ما يقول إلى غير ذلك مما جرى في المحاكمة.
وفي هذه الحادثة أنشد محمد
العيد آل خليفة قصيدة منها:
حَمتْك يَدُ
المَوْلَى و كُنْتَ بِهَا أولَى فيَالكَ مِنْ شَيخَ حَمََتْهُ
يَدُ المَـوْلَى
فَيَا لو ضِيع
النّفْسِ كَيفَ تَطاولتْ بِهِ نَفْسُه حتَّى أسرّ لَكَ
القَـتـلاَ
فَوَافَتكَ
بالنَّصْر العَزِيزِ طَـلائـعٌ مُبَاركةٌ
تَتْرى من الْـمـلأ الأعْلَى
وإنْ أنْسَ
لا أنْسَى الذينَ تَظَافَرُوا عَلى الفَتْكِ بالجَاني فقلتَ لَهُم
مَهْلاَ
وهذه الأبيات
كما نرى تشتمل على غرضين أدبيين وهما : المدح و الهجاء، مدح ابن باديس، وهجاء
المجرم الذي حاول اغتياله ومن هذه الحادثة نلمس مدى تسامح ابن باديس وعفوه عند
المقدرة، والعفو عند المقدرة من شيم الكرام.
نفضل هنا أن
نترك ابن باديس يحدثنا عن العوامل التي أسهمت في تكوين شخصيته، كما يذكرها هو في
ختام حفلة التكريم التي خصه بها إخوانه العلماء وتلاميذه بمناسبة الاحتفال بختم
تفسيره للقرآن قال رحمه الله :
" أنا رجل أشعر بكل ما له أثر في حياتي وبكل من له يد في
تكويني، وإن الإنصاف ليدعوني أن أذكر في هذا الموقف بالتمجيد والتكريم كل العناصر
التي كان لها الأثر في تكويني حتى تأخذ حظها مستوفى من كل ما أفرغتم علي من ثناء
ومدح... وإني أشهد أن هذا التحفي عسير
علي، ثقيل علي حمله. فلعلي إذا ذكرت هذه العناصر توزعت حصصها من التنويه، وتقاضت
حقوقها من الثناء، الذي أثقلتم به كاهلي، فأكون بذلك قد أرضيت ضميري، وحففت على
نفسي.
1 – إن الفضل
يرجع أولا إلى والدي الذي رباني تربية صالحة، ووجهني وجهة صالحة، ورضي لي العلم
طريقة أتبعها، ومشربا أرده، و قاتني وأعاشني، وبراني كالسهم، وراشني، وحماني من
المكاره صغيرا و كبيرا، وكفاني كلف الحياة فلأشكرنه بلساني ولسانكم ما وسعني
الشكر.
2 – ثم لمشائخي
الذين علموني العلم، وخطوا لي مناهج العمل في الحياة، ولم يبخسوا استعدادي حقه،
وأذكر منهم رجلين لهما الأثر البليغ في تربيتي، وفي حياتي العملية، و هما (من
مشائخي) اللذان تجاوزا بي حد التعلم المعهود... إلى التربية والتثقيف، والأخذ
باليد إلى الغايات المثلى في الحياة؛ أحد الرجلين : الشيخ حمدان الونيسي
القسنطيني، وثانيهما : الشيخ محمد النخلي القيرواني المدرس بجامع الزيتونة
المعمور.
وإني لأذكر للأول وصية أوصاني بها، و عهدا عهد
به إلي، وأذكر ذلك العهد في نفسي ومستقبلي وحياتي، فأوجدني مدينا لهذا الرجل بمنة
لا يقوم بها الشكر، فقد أوصاني وشدد علي أن لا أقرب الوظيفة ما حييت، ولا أتخذ
علمي مطية لها، كما كان يفعله أمثالي في ذلك الوقت.
وأذكر للثاني كلمة لا يقل أثرها في ناحيتي
العلمية عن أثر تلك الوصية في ناحيتي العملية، وذلك أني كنت متبرما بأساليب المفسرين
وتأويلاتهم الجدلية في كلام الله، ضيق الصدر من اختلافهم فيما لا اختلاف فيه من
القرآن... فذاكرت يوما الشيخ النخلي فيما أجده في نفسي من التبرم والقلق، فقال لي،
" اجعل ذهنك مصفاة لهذه الأساليب المعقدة، وهذه الأقوال المختلفة، والآراء
المضطربة يسقط الساقط، ويبقي الصحيح وتستريح " فوالله لقد فتح عن ذهني آفاقا
واسعة عهد له بها.
3 – ثم لإخواني
العلماء الذين آزروني في العمل من فجر النهضة إلى الآن، فمن حظ الجزائر السعيد،
ومن مفاخرها التي تتيه بها علي الأقطار أنه لم يجتمع في بلد من بلدان الإسلام
(اليوم) فيما رأينا وسمعنا وقرأنا مجموعة من العلماء، وافرة الحظ من العلم، مؤتلفة
القصد والاتجاه، مخلصة النية، متينة العزائم، متحابة في الحق مجتمعة القلوب على
الإسلام والعربية قد ألف بينها العلم والعمل ،مثلما اجتمع للجزائر في علمائها،
فهؤلاء هم الذين وري بهم زنادي، وتأثل بطارفهم تلادي،أطال الله أعمارهم، و رفع
أقدارهم.
4 – ثم لهذه
الأمة الكريمة المعوانة على الخير، المنطوية على أصول الكمال... التي – ما عملت يوما – علم الله – لإرضائها لذاتها،
و إنما عملت وما أزال أعمل لإرضاء الله بخدمة دينها ولغتها، و لكن الله سددها في
الفهم، وأرشدها إلى صواب الرأي، فتبينت قصدي على وجهه، وأعمالي على حقيقتها،
فأعانت ونشطت بأقوالها وأموالها، و بفلذات أكبادها، فكان لها بذلك كله من الفضل في
تكويني العملي أضعاف ما كان لتلك العناصر
في تكويني العلمي ؟
5 – ثم الفضل
أولا و أخيرا لله و لكتابه الذي هدانا لفهمه ،و التفقه في أسراره، والتأدب بآدابه
، وإن القرآن الذي كون رجال السلف لا يكثر عليه أن يكون رجالا في الخلف، لو أحسن
فهمه و تدبره، و حملت الأنفس على منهاجه ".
وبهذا فإنشخصية
ابن باديس شخصية متعددة الجوانب متنوعة المواهب، فقد توفرت لها مؤهلات من النادر
أن تجتمع في شخصية واحدة.
فهو : عالم ورع
وفقيه في أمور الدين، مساير لمقتضيات العصر وظروف الحياة، معلم موهوب، مجدد في
أساليب التعليم، وصاحب مذهب في تفسير كتاب الله وزعيم من زعماء الفكر الإصلاحي
والنضال السياسي له آراء و مواقف في الدين والأخلاق والسياسة ثم هو كاتب بارع وخطيب بليغ و شاعر وإن كان مقلا وصحافي ناجح.
و من يتتبع
حياته ويدرس جوانب شخصيته يلمس بوضوح هذه الجوانب المختلفة فهو يجمع إلى جانب
القدرة على الكتابة البليغة الهادفة والخطابة المؤثرة وقول الشعر الوطني، الإمامة
في العلم والدين، والزعامة في النضال السياسي والإصلاح الاجتماعي يزين كل ذلك سعة
الاطلاع، وعمق التفكير، ومتانة في الخلق، واستقامة في السلوك وذكاء حاد، ووعي كامل
بمشكلات العصر، وإدراك شامل لوضعية شعبه، وما ينبغي أن يكون عليه إذ أخذ بأسباب
الحياة – كان رحمه الله – قائد ركب ومحرر شعب، لقد صحح مفاهيم الحياة الإسلامية
التي اهتزت بعنف أمام ضربات الاستعمار المتتالية، في وقت ساد فيه الجهل، وعم فيه
الجمود، وانتشرت الخرافة وانحطت كرامة الإنسان العربي، وأهدرت قيمة المسلم، و زاد
ابن باديس هذه المفاهيم تحديدا و وضوحا بسلوكه المثالي، وتفكيره المتزن والمتوازن،
و بحكمته وحنكته مع التوفيق الإلهي الذي كان يسند حركته ،فعاد النور الهادي من
جديد يضيء الطريق للسالكين خلف القائد الملهم .
وهكذا الأغنياء في قوة الودعاء و وداعة
الأقوياء، فكان الرجل الذي أجمع الجميع على حبه و تقديره، وحتى الأعداء الذين
كانوا يحاربونه، كانوا مع ذلك يجلونه ويهابونه.
يُرجِع ابنُ باديس الفضلَ في تكوينه العلمي إلى والده، الذي
ربّاه تربية صالحة، ووجّهه وجهة سليمة، ورضي له العلم طريقًا يتبعه، ومشربًا
يَرِدُهُ، ولم يشغله بغيره من أعباء الحياة، فكفله وحماه من المكاره صغيرًا
وكبيرًا.
يمكن تقسيم أساتذة عبد الحميد إلى قسمين :
يمكن تقسيم أساتذة عبد الحميد إلى قسمين :
القسم الأول :
هم الأساتذة الذين درس عليهم فعلا،
وهؤلاء عددهم كثير نذكر منهم الأساتذة أسماؤهم فقط.وهم :
1- الشيخ محمد المداسي وهو
الذي حفظ على يديه القرآن الكريم بمدينة قسنطينة وهو أول معلم لعبد الحميد بن
باديس
2- الشيخ "أحمد أبو
حمدان لونيسي" وهو الأستاذ الذي تلقى عليه دراسته الابتدائية في اللغة
العربية والثقافية الإسلامية بمدينة قسنطينة قبل أن يسافر للدراسة في جامع
الزيتونة بتونس سنة 1908 م .
وقد كان للشيخ "حمدان
لونيسي" العالم المتصوف تأثير بعيد
المدى في شخصية ابن باديس وتوجيهه العامل يذكره بإجلال كبير طوال حياته.
وقد أوصاه "أن يقرأ
العلم للعلم لا للوظيف ولا للرغيف" وأخذ عليه عهد غليظا ألا يقرب الوظائف
الحكومية عند فرنسا أبدا حتى لا تكبله بقيودها الثقيلة.
وقد نفذ عبد الحميد بن باديس
وصية أستاذه تنفيذا كاملا فلم يقبل الوظائف التي عرضت عليه ولم يسع وراءها حتى
وافاة أجله المحتوم. كما أوصى هو بدوه تلاميذه ألا يقربوا الوظائف الحكومية عند
فرنسا ولا يقبلوها إذا عرضت عليهم حتى
يعيشوا أحرارا لأفكارهم ومبادئهم ورسالتهم
الإصلاحية.
3- الأستاذ محمد النخلي
القيرواني الأستاذ بجامح الزيتونة، وزعيم النهضة الفكرية به.
4- الأستاذ محمد الطاهر بن
عاشور الأستاذ بجامع الزيتونة وباعث النهضة الإصلاحية بالجامع الأعظم.
5- الأستاذ محمد الخضر بن
الحسين، الذي درس عليه في الزيتونة وفي منزله بتونس قبل أن يهاجر إلى الشرق العربي
ويستقر به.
6- الأستاذ محمد الصادق
النيفر، الأستاذ بجامع الزيتونة.
7- الشيخ سعيد العياضي
(الجزائري) المصلح المجدد.
8- الأستاذ محمد بن القاضي
الأستاذ بجامع الزيتونة.
9- الأستاذ أبو محمد بلحسن
بن الشيخ المفتي النجار – الأستاذ بجامع الزيتونة.
10- الأستاذ البشير صفر السياسي
والمؤرخ التونسي المعروف.
ويذكر
عبد الحميد بن باديس في مجلة "الشهاب" وفي جريدة "البصائر" أن
الأساتذة الذين أثروا في تكوينه الفكري وفي اتجاهه الإصلاحي والوطني الذي إلتزمه
طوال حياته لا يتجاوز عددهم أربعة أساتذة فقد وهم على الترتيب :
أ- الشيخ حمدان
لونيسي العالم المتصوف القسنطيني الجزائري : المهاجر إلى المدينة المنورة
والمدفون بها. وقد كان له تأثير كبير في تكوينه العلمي والعملي معا وهو الأستاذ
الأول الذي تلقى عليه دراسته الابتدائية في قسنطينة قبل أن يسافر إلى الدراسة في
جامع الزيتونة بتونس كما ذكرنا منذ قليل.
ب-الشيخ محمد الطاهر بن
عاشور :
الذي يصفه بأنه ثاني الرجلين اللذين يشار إليهما (في تونس) بالرسوخ في العلم
والتحقيق في النظر والسمو في التفكير. وقد بدأ اتصاله به قبل حصوله على شهادة
العالمية بعام واحد ولازمه مدة ثلاث سنوات وكان قبل ذلك يصرفه البعض من أساتذته
الجامدين عن الاتصال به بدعوى أنه من رجال البدعة في زعمهم لأنه من اتباع مدرسة
جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ومن العامين على نشرها في أوساط طلبة جامع
الزيتونة.
وقد
درس ابن باديس عليه الأدب العربي في ديوانه
الحماسة لأبي تمام وتأثر به في تكوين ذوقه الأدبي واللغوي تأثرا كبيرًا
صوره لنا بقوله : " وأن أنس فلا أنسى دروسا قرأتها من ديوان الحماسة على الأستاذ ابن عاشور، وكانت من أول ما قرأت
عليه فقد حببتني في الأدب والتفقه في كلام العرب، وبثت في روحا جديدا في
فهم المنظوم والمنثور واحيت في الشعور بعز العروبة والاعتزاز بها كما اعتز
بالإسلام" (ابن باديس - جريدة البصائر – العدد 16، السنة الأولى، الجزائر، في
24 أبريل سنة 1936 م .
للعلم
الشيخ طاهر بن عاشور من مواليد سنة 1897 م بتونس حيث تقلد عدة مناصب علمية منها :
قاضي القضاة سنة 1921 م، وعمادة مجلس الشورى المالكي، ومشيخة جامع الزيتونة. وقد
أدخل عليه عدة إصلاحات جوهرية في مناهجه الدراسية. وله مجموعة من المؤلفات مذكورة
في كتابه "أصول النظام الاجتماعي في الإسلام".
ج- الشيخ محمد النخلي القيرواني (تـ
1342 هـ/1924 م)
: الذي تأثرا عمقا من ناحية فهم القرآن الكريم وتفسيره.
والشيخ
النخلي والشيخ ابن عاشور، يعتبران من رواد النهضة الفكرية والإصلاحية بتونس في
العصر الحديث، كما يعتبران من أبرز أتباع مدرسة الإمام محمد عبده والعاملين على
نشرها في تونس.
والشيخ
محمد الطاهر بن عاشور هو الذي عرف ابن باديس بالشيخ النخلي ومهد له سبيل التعرف
عليه والاتصال به.
ويحدثنا
الشيخ عبد الحميد بن باديس عن أول معرفته بهذين الأستاذين اللذين تأثر بهما كثيرا
في الناحية العلمية والأدبية وعن كيفية اتصاله بهما لأول مرة، فيقول : "عرفت
هذا الأستاذ (الطاهر بن عاشور) في جامع الزيتونة. وهو ثاني الرجلين اللذين يشار
إليهما بالرسوخ في العلم، والتحقيق في النظر، والسمو والاتساع في التفكير. أولهما
العلامة الأستاذ شيخنا (محمد النخلي) القيرواني، رحمه الله. وثانيهما الأستاذ
شيخنا (الطاهر بن عاشور) وكانا كما يشار إليهما بالضلال والبدعة وما هو أكثر من
ذلك لأنهما كانا يحبذان آراء الأستاذ (محمد عبده) في الإصلاح ويناضلان عنها
ويبثانها فيمن يقرأ عليهما. وكان هذا مما استطاع بع الوسط الزيتوني أن يصرفني
عنهما وما تخلصت من تلك البيئة الجامدة، واتصلت بهما حتى حصلت على شهادة
"العالمية" ووجدت لنفسي الاختيار فاتصلت بهما عامين كاملين، كان لهما في
حياتي العلمية أعظم الأثر على أن الأستاذ ابن عاشور اتصلت به قبل نيل الشهادة بسنة
فكان ذلك تمهيدا لاتصالي الوثيق بالأستاذ
النخلي" (عبد الحميد بن باديس "البصائر" السنة الأولى،
العدد 16، الجزائر، في أفريل، سنة 1936
م ).
د- الأستاذ البشير الصفر : وقد أرجع إليه ابن باديس
الفضل في معرفته بالتاريخ العربي والإسلامي والقومي مما كون منه جنديا من جنود
الجزائر.
ويعتبر
الأستاذ بشير صفر الذي درس في أوروبا ويعرف عدة لغات حية من المصلحين المجددين في
تونس ومن بناة النهضة العلمية والفكر الحديثة بها، وكان يشتغل بالتدريس في جامع
الزيتونة ومدرسة الخلدونية وقد تقلد عدة مناصب علمية وسياسية في تونس.
يقول
الشيخ عبد الحميد بن باديس : "وأنا شخصيا أصرح بأن كراريس (البشير الصفر)
الصغيرة الحجم الغزيرة العلم، هي التي كان لها الفضل في إطلاعي على تاريخ أمتي،
والتي زرعت في صدري هذه الروح التي انتهت اليوم لأن أكون جنديا من جنود
الجزائر" (ابن باديس "مجلة الشهاب" ج5، م13، ص : 225 – 228 عدد
يوليو/جويلية سنة 1937 م .
من محاضرته له في الذكرى العشرينية لوفاة الأستاذ البشير الصفر).
والجدير بالملاحظة أن الشيخ عبد الحميد بن باديس يرجع الفضل
في تكوين العلمي والفكري إلى هؤلاء الأساتذة الذين ذكرناهم فهم الذين علموه العلم
وخطوا له مناهج العمل في الحياة ولم يبخسوا استعداده الفطري حقه. يقول : "
وأذكر منهم رجلين كان لهما الأثر البليغ في تربيتي وفي حياتي العلمية وهما من
مشائخي الذين تجاوزوا بي حد التعليم المعهود من أمثالهم لأمثالي إلى التربية
والتثقيف، والأخذ باليد إلى الغايات المثلى في الحياة، أحد الرجلين الشيخ حمدان
لونيسي القسنطيني نزيل المدينة المنورة ودفينها، وثانيهما الشيخ محمد النخلي
المدرس بجامع الزيتونة المعمورة رحمهما الله" (ابن باديس مجلة
"الشهاب" عدد خاص، ج 4-5، يونيو ويوليو/جوان وجويلية، سنة 1938 م، ص :
288-291).
ثم يفصل فضل هذين الأستاذين عليه في توجيهه من الناحية
العلمية والعمل مما كان له تأثير الكبير في حياته، فيقول : "وإني لأذكر للأول
(حمدان لونيسي) وصية أوصاني بها وعهدا عهد به إلي وأذكر ذلك العهد في نفسي
ومستقبلي وحياتي وتاريخي كله، فأجدني مدينا لهذا الرجل بمنه لا يقوم بها الشكر،
فقد أوصاني وشدد علي ألا اقرب الوظيفة ولا أرضاها ما حييت ولا أتخذ علمي مطية لها
كما كان يفعله أمثالي في ذلك الوقت".
وأذكر للثاني (النخلي) كلمة
لا يقل أثرها في ناحيتي العلمية عن أثر تلك الوصية في ناحيتي العلمية، وذلك أنني
كنت متبرما بأساليب المفسرين وإدخالهم لتأويلاتهم الجدلية وإصلاحاتهم المذهبية في
كلام الله ضيق الصدر من اختلافهم فيما لا اختلاف فيه القرآن. وكانت على ذهني بقية
غشاوة من التقليد واحترام آراء الرجال، حتى في دين الله، وكتاب الله، فذاكرت يوما
الشيخ الخلي فيما أجده في نفسي من التبرم والقلق، فقال : " اجعل ذهنك مصفاة
لهذه الأساليب المعقدة، وهذه الأقوال المختلفة، وهذه الآراء المضطربة، يسقط الساقط
ويبقى الصحيح وتسريح فو الله لقد فتح بهذه الكلمات القليلة على ذهني افاقا واسعة
لا عهد له بها".
أما القسم الثاني :
من أساتذة عبد الحميد بن
باديس فهم الذين لم يتلق عليهم العلم بطريق مباشر وإنما تتلمذ عليهم عن طريق
آثارهم وكتاباتهم، وقد حدثنا عن واحد منهم حديثا مفصلا وهو الأستاذ "طاهر بن
صالح بن أحمد موهوب السمعوني الجزائري" المهاجر من الجزائر إلى ديار الشام
حيث تولى قضاء المالكية بها.
وقد ارجع إليه الفضل في
تكوين فكره منذ أن كان صغيرا إلى أن أصبح رجلا وكان يدعوه "شيخي" وقد
كتب عنه دراسة طويلة في مجلة "الشهاب" تحت عنوان "شيخي" جاء
فيها قوله : "هو الذي ربى عقلي، وهو الذي جبَّب إلي هذا الاتجاه الفكري، منذ
أن كنت طفلا إلى أن صرت رجلا، ولا أعرف مؤلفًا ولا حامل قلم نشأ في ديار الشام إلا
وقد كانت له صلة إما مباشرة أو بواسطة الذين استفادوا منه..."
وبالإجمال هو جرثومة الخير
الأولى. (بابن باديس "مجلة الشهاب" ج5، م13، ص : 230، عدد يوليو/جويلية
سنة 1938 م ).
ومنهم الشيخ محمد عبده الذي
تأثر بأفكاره وآرائه الإصلاحية عن طريق مجلة "المنار" التي كان الشيخ
عبد الحميد بن باديس ينقل منها أحيانا بعض المقالات وينشرها في مجلة الشهاب، كما
كانت له مراسلات وكتابات مع صاحبها الشيخ رشيد رضا تلميذ الإمام محمد عبده.
ومنهم الإمام أبو بكر بن
العربي المتوفى سنة 543 هجرية صاحب كتاب "العواصم من القواصم" الذي نبهه
إليه الشيخ محمد النخلي فبحث عنه وقرأه ثم استنسخه وقام بطبعه في جزأين بعد عودته
إلى الجزائر من تونس وقدم له بمقدمة هامة.
ويظهر تأثير الإمام أبي بكر
العربي في الشيخ عبد الحميد بن باديس في كتابه "العقائد الإسلامية" الذي
لم يسلك فيه مسلك الفلاسفة، ولا منهج المتكلمين وإنما نهج القرآن الكريم في
الاستدلال، وأساليبه في الرد والحجاج، ذلك المنهج الذي "يتلاءم مع الفطرة
الإنسانية فتستجيب له وتطمئن إليه وتميل نحوه وتركن" .
ومنهم الشيخ "محمد بخيث
المطيعي" العالم الازهري المشهور وزميل الإمام محمد عبده، والمدافع عنه والحامل
للفكر الإصلاحية في الأزهر وهو أحد تلامذة السيد "جمال الدين الأفغاني".
6
وقد اتصل به الشيخ عبد
الحميد بن باديس أثناء رجوعه من الحج سنة 1913 وزاره في بيته بحلوان وكتب له اجازة
في دفتر إجازاته وعند وفاته سنة 1935
م ترجم له ابن باديس في مجلة الشهاب ج11، م11، ص : 606 –
617 عدد فبراير سنة 1936 ترجمة وافية.
وقد كان ابن
باديس يتمتع باحترام أساتذته الكبير نظرا لجده ومتانة خلقه، وغزارة علمه، والدليل
على ذلك أنه عندما كتب رسالة تحت عنوان "رالسة جواب سؤال عن سوء مقال"
في عام 1340 هجرية للرد على الشيخ ابن عليوة المتصوف وشيخ الطريقة العليوية في
مستغانم بالغرب الجزائري في البدع التي أحدثها في الدين، قام عدد كبير من أساتذته
بتقريظها وأرسلوا إليه بتقاريظهم تباعا قطبعها ونشرها في الجزء الأخير من الرسالة
المذكورة كما نشر فيها كذلك اسم العلماء المقرظين مع بيان وظائفهم وبلدانهم (انظر
نص الرسالة والتقاريظ وأسماء العلماء ووظائفهم وبلدانهم في كتاب " ابن باديس
حياته وآثاره" ج3، ص : 152 – 174، جمع وترتيب عمار الطالبي، مكتبة الشركة
الجزائرية سنة 1968 م ).
لقد
عاش الشيخ عبد الحميد بن باديس للفكرة والمبدأ ومات وهو يهتف (فإذا هلكت فصيحتي
تحيا الجزائر والعرب) لم يحد عن فكرته ومبدئه قيد أنملة حتى آخر رمق من حياته، ولم
يبال بصحته الضعيفة التي تدهورة كثيرا في السنتين الأخيرة من حياته، هذا هو ابن
باديس الذي عرفته الجزائر عالما عاملا, وفقيها مجتهدا, ومربِّيا مخلصا, ومصلحا,
وسياسيا, وإماما كان يقضي بياض نهاره وسواد ليله في خدمة دينه ولغته وبلاده. هذا
هو الرجل الذي كان قلب الجزائر النابض, وروحها الوثابة وضميرها اليقظ, وفكرها
المتبصر, ولسانها المبين, لم يضعف أمام هجمات الاستعمار المتتالية, ولم يستسلم
لمناوراته وتهديداته, ولا للإغراءات والمساومات, بل بقي ثابتا على مبادئه صامدا
حتى آخر حياته.
مساء
يوم الثلاثاء 8 ربيع الأول سنة 1359 هـ ، الموافق 16 أبريل 1940م، على الساعة
الثانية والنصف بعد الزوال أسلم
ابن باديس روحه الطاهرة لبارئها، متأثرًا بمرضه بمسقط رأسه مدينة قسنطينة، وكان
محاطا بوالده وشقيقه الأكبر (الزبير) والطبيب الفرنسي القادم من العاصمة
"ليفي فالونزي" وابن خاله الطبيب القسنطيني الشهير "بن جلول",
وقد مات رحمه الله ولم تكن في رأسه شعرة بيضاء واحدة.
ولما أعلن البرّاح في الناس خبر وفاته اهتزّت أوجاع
تلاميذه ومساعديه في مهنة التعليم والمتاعب, وعندما شاع خبر وفاته في الجزائر بكاه
أبناء الوطن بكاءا حارا كما بكاه عارفوه، ومقدرو علمه، وجهاده، في سبيل الجزائر
والإسلام، والعروبة، في كل من المغرب وتونس وليبيا، والمشرق العربي والعالم
الإسلامي.
وقد
شيعت جنازته في اليوم التالي لوفاته الموافق عصر يوم الأربعاء 9 ربيع الأول سنة
1359 هـ ، الموافق 17 أبريل 1940م، وحمل جثمانه إلى مثواه الأخير طلبة
الجامع الأخضر دون غيرهم وسط
جموع غفيرة ما يزيد عن مائة ألف نسمة، جاءوا من كافة أنحاء القطر الجزائري
لتوديعه الوداع الأخير، في حين كان عدد سكان قسنطينة آنذاك لا يتجاوز 50 ألف
نسمة. وقد تولى أداء الصلاة على جنازته الشيخ العربي التبسي, كما تولى تأبينه كل
من الشيخ مبارك الميلي والعربي التبسي والدكتور محمد الصالح بن جلول يجدر، ودفن في مقبرة آل باديس
الخاصة في مدينة قسنطينة رغم وصيته التي أوصى فيها بدفنه في مقبرة شعبية عامة.
وقد
تركت وفاة الشيخ عبد الحميد بن باديس فراغا كبيرا في صفوف الحركة الوطنية، وفي
رجال الإصلاح الإسلامي في الجزائر وغيرها، وبين جماهير الشعب التي كانت تعتبره
الزعيم المخلص، والوطني الغيور على دينه، ولغته، وشعبه، ووطنه، وعلى الإسلام
والعروبة، بصفة خاصة وقد قال الشيخ الشهيد العربي بن بلقاسم التبسي في تأبينه في
المقبرة ما يلي : "لقد كان الشيخ عبد الحميد بن باديس في جهاده وأعماله، هو
الجزائر كلها فلنتجتهد الجزائر بعد وفاته أن تكون هي الشيخ عبد الحميد بن
باديس".
هذا
وحامت الأقاويل حول موته، فمن قائل مات مسموماً كما زعمت إذاعة ألمانيا "هنا
برلين" يوم 09 ماي 1940 م
على لسان "تقي الدين الهلالي" : "أن السلطات الفرنسية في الجزائر
هي المسؤولة على وفاته، وقد ذكرت أنه مات مسموما على أيدي الفرنسيين، كما فعلوا
بمعظم العلماء، الذين ما يزال بعضهم يعاني في ظلمات السجون، وأن الطغاة الفرنسيين
أرادوا تسميمه، وقد قتلوا جميع الزعماء من قبله والشعب الجزائري اليوم يطالب
لفديته، وسينتقم له عاجلا أو آجلا"
وربما هذا ما يفسر اختفاء الشيخ العربي التبسي ووفاة الشيخ الميلي والطيب
بأمراض مجهولة.
ومن
قائل أنه مات بسبب مرض، فيقول الشيخ محمد البشير الإبراهيمي : "بعد استقراري
في المنفى بأسبوع تلقيت الخبر بموت الشيخ عبد الحميد بن باديس – رحمه الله – بداره
في قسنطينة بسرطان في الأمعاء كان يحس به وسنوات ويمنعه انهماكه في التعليم وخدمة
الشعب من التفكير فيه وعلاجه... وكنت بدأت نذر الحرب تظهر وغيومها تتلبد أجتمع
بالشيخ أبن باديس في داري بتلمسان فقررنا ماذا نصنع إذا قامت الحرب، وقررنا من
يخلفنا إذا قبض علينا، قلّبنا وجوه الرأي في الاحتمالات كلها، وقدرنا لكل حالة
حكمها، وكتبنا بكل ما اتفقنا عليه نسختين، ولكن كانت الأقدار من وراء تدبيرنا،
فقبضه الله إليه".
كما أشار ابن جلول
وهو من بين المأبنين البارزين للشيخ ابن باديس وابن خاله إلى مرض ابن باديس
الذي ظل مجهولا حتى عند أقرب الناس إليه فيقول :"وبحكم مهنتي كطبيب تشرفت
ببذل المعالجة له خلال مرضه الأخير, الذي قضى عليه ولم يرض بالتوجه إلي ومنحي ثقته
لمعالجته إلا بعد أن فطنا له مرهق منذ عهد بعيد, وأن مشيه من مكتبه إلى الجمعية,
إلى الجامع الأخضر قد أصبح مضنيا بالنسبة إليه, وقد بذلت ما في وسعي لكسب ثقته,
وبذل الشفاء له, ويا أسفاه فالمرض قد كان يمخر جسمه شيئا فشيئا".
ويقول ابن جلول : أن ابن باديس بلغ منه التعب والإرهاق
مبلغا جعله في آخر أيامه لا يقوى على تجاوز مسافة تقدر بمئتي متر على قدميه نظرا
لتمكن المرض من جسمه النحيف المتهالك, فكان مرقده إلى جوار حجرة دروسه ولما أنهكه
العيي, وهو الذي قاومه خمسين سنة, أذن لطلابه لأول مرة في حياته منحهم خمسة عشر
يوما كعطلة بمناسبة المولد النبوي بعدما عرف عنه أنه لم يكن يقبل بأكثر من ثلاثة
أيام كتوقف عن التحصيل, ولما أظهر طلابه المتعلقون به تعجبهم من هذا التسريح الذي
يدوم نصف شهر, أجابهم بلغة يائسة وألم يمزق أحشاءه وحسرة تعتصر قلبه :"إنني
متهالك... إنني مريض للغاية فاعذروني" فلم يعلن رجل كابن باديس أنه انهار
فمعنى ذلك أن في الأمر ما يدفع إلى التساؤل عن كيفية الرعاية التي كان يحظى بها في
مدينة قسنطينة وأعني بذلك الرعاية الصحية والغذائية والنفسية.
ومن قائل أنه مات موتة طبيعية، وهو ما يؤكده الأستاذ عبد
الحق أخو الشيخ بن باديس : " كان ابن باديس نحيف الجسم، ولم يكن يُعطي لنفسه
قسطا من الراحة، فيومه يبدأ مع صلاة الصبح، ولا ينتهي إلا في ساعة متأخرة من
الليل، وهذا لمدة 25 سنة قضاها بأيامها ولياليها في التدريس والتفسير، وإلقاء
المحاضرات ودروس الوعظ والإرشاد، والكتابة في الصحافة، وإدارة الأعمال الإدارية
وكثرة السفر حيث كان يستقل قطار (قسنطينة – الجزائر) كل مساء أربعاء ليعود
مساء كل جمعة, وزادت حصصه التدريسية اليومية لترتفع إلى ثلاث حصص في اليوم.. ومع
أنه لم يكن يعاني من أي مرض حتى أنه لم يلبس في حياته نظارات طبية ولم يشتكي من
تسوس أسنانه إلا أنه رقد في فراش المرض في 14 أفريل 1940 وعلى مدى ثلاثة أيام لم
يستطع مغادرة فراشه فكان يقوم بتمريضه "من ضعفه وشحوبه" والده وشقيقته
"بتول" طوال النهار ويتولى "عبد الحق" السهر معه ليلا، فالإرهاق والتعب والزهد في
الحياة، وثقل المسئولية التي كانت يشعر بها تجاه الأمة الجزائرية هي السبب المباشر
لوفاته عندما حان وقت تسليم الروح إلى خالقها".
- ولا يعلم
الحقيقة إلا الله - وذلك شأن الناس عند موت كل عظيم.
يعتبر الشيخ أحمد بوشمال
بمثابة الساعد الأيمن للشيخ عبد الحميد بن باديس في حركته الإصلاحية (1913 –
1940)، وأمين سره، إلى جانب ذلك فهو مدير مطبعة الشهاب المسمات المطبعة الجزائرية
الإسلامية بقسنطينة.
وقد بعث الشيخ أحمد بوشمال،
الرسالة التالية إلى الشيخ أحمد بن بوزيد قصبة، أحد رجالات الحركة الإصلاحية في
مدينة لغواط وضواحيها، من جنوب جزائرنا الشاسع الأطراف.
وموضوع الرسالة المذكورة هو
وصف حي لوفاة رائد النهضة الإسلامية العربية في الجزائر المعاصرة، وتاريخ وفاته،
والجماهير الغفيرة التي سارت في جنازته، إلى المقبرة، والتي قدرتها الرسالة فيما
بين خمسين وسبيعن ألف مواطن ومواطنة.
ثم أشار إلى أن وفاة الشيخ عبد الحميد بن
باديس تعتبر مصيبة جلى، وداهية عظمى
على الأمة الجزائرية، وفيما يلي نص
الرسالة المذكورة (نقلا عن جريدة الشروق
اليومي عدد 654 ليوم 23/12/2002).
ليست هناك تعليقات
إذا لم تجد عما تبحث عنه اكتبه بعد التعليق وستجده مرة أخرى إن شاء الله و تأكد ان تعليقك يهمنا...